تنقية المياه بين الشركات الخاصه والشركات الحكوميه

حتى يتسنى لنا فهم الأبعاد المختلفة لتلك القضية، يتوجب علينا النظر للمياه كحق مكفول لجميع المواطنينفالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر في عام 1966 يتناول قضية الحق في الماء من منظورين مختلفين. الأول يرتبط بحق المواطنين في مستوى معيشي ملائم (المادة 11)، بينما يرتبط الثاني بحق المواطنين في التمتع بأعلى مستوى من الصحة (المادة 12). ولأهمية هذه القضية أصدرت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عام 2002 التعليق العام رقم 15 على المادة 12 من العهد الدولي، والخاص بـ”الحق في الماء”. ويعطي هذا التعليق تعريفاً واضحاً للحق في الماء بأنه لكل فرد الحق في الحصول على كمية من الماء تكون كافية ومأمونة ومقبولة ويمكن الحصول عليها مادياً كما تكون ميسورة التكلفة لاستخدامها في الأغراض الشخصية والمنزلية.“والنقطة الأهم في هذا التعريف أنه يعطي الحق في الماء صفات محددة لا تقف عند جانب الوصول للماء فقط، بل يمتد لجوانب أخرى تصلح كأداة لتحليل مبادرتنا هذه، وقضية مياه الشرب في مصر بوجه أعمومن هذه الجوانب:

كفاية المياه
يعني ذلك أن تكون المياه كافية للفرد كي يؤدي بها جميع أغراضه بشكل سليم ومريح. ومن المعروف أن حد الفقر المائي المتعارف عليه للفرد الواحد هو 1.000 متر مكعب من المياه العذبة سنويا، والبلدان التي يقل نصيب الفرد فيها عن ذلك تعد فقيرة مائياًوتعد مصر من الدول التي تقع تحت خط الفقر المائي حيث يبلغ نصيب الفرد فيها حوالي 700 متر مكعب من المياه العذبة سنوياً. ومن المتوقع أن تنخفض هذه الحصة إلى 600 متر مكعب سنوياً بحلول عام 2025.
ولا يقف الأمر عند هذه الحد، ولكن تعاني مصر من تفاوت حاد وغياب مؤرق للعدالة في توزيع نصيب الفرد من مياه الشرب النقية التي تنتجها الشركة القابضة للمياه بين محافظات مصر المختلفة. فعلى سبيل المثال، بلغ متوسط نصيب الفرد في مصر من مياه الشرب المنتجة في 2009/2010 حوالي 259 لتر في اليوم. ولكننا نجد في نفس الفترة أن نصيب الفرد في اليوم يبلغ 752 لتر في محافظة القاهرة، و580 لتر في محافظة الإسكندرية. بينما يبلغ نصيب الفرد في اليوم 105 لتر في محافظة المنيا و108 لتر في محافظة أسوان. يعني ذلك ببساطة أن المواطن المصري الذي يسكن بالقاهرة يحصل على نصيب من الماء النقي يزيد عن 7 أضعاف نصيب المواطن الذي يسكن بمحافظة المنيا على بعد 3 ساعات بالقطار من القاهرة، وكأنها دولة أخرى. ولا يقتصر هذا التفاوت المروع بين المحافظات وبعضها البعض، ولكن يحدث داخل المدينة الواحدة بين أحيائها المختلفة.

وقد يبدو من المدهش أن نصيب الفرد في مصر من المياه النقية يزيد على مثيله في دولة مثل ألمانيا. ولكن يعيب منظومة توزيع المياه النقية في مصر عدم عدالة التوزيع، وارتفاع نسبة الفاقد من هذه المياه والذي يصل إلى 50% من كمية المياه المنتجة نتيجة سوء الاستخدام وتدهور حالة شبكات المياه.

إمكانية الوصول للمياه
يعني ذلك سهولة الوصول إلى المياه وتجنب المتاعب التي يلقاها البعض للحصول على الماء. وهو ما يتطلب توفير صنبور مياه نقية بكل منزل على أقل تقدير، وذلك لتجنب تخزين المياه وتلوثها مع الوقتفوفقاً لدراسة للمركز القومي للبحوث في 2008، فإن 40% من سكان القاهرة لا يحصلون على المياه لأكثر من ثلاث ساعات في اليومووفقا لمسح أجري قبل عام 2006 في محافظة الفيوم، كانت هناك شكاوى من 46% من الأسر من انخفاض ضغط المياه، و30% من انقطاع المياه المتكرر، في حين اشتكى 22% من عدم إتاحة المياه خلال ساعات النهار. وليس هناك من دليل أكثر على هذه المشكلة سوى تفشي استخدام مواتير المياه أوالطلمبات الحبشية تقريباً في كل منازل مدن وقرى مصر للحصول على المياه.

صلاحية المياه
يعني ذلك أن تكون المياه نقية وصالحة للاستخدام لأغراض الشرب والاستخدامات المنزلية المختلفة. أي أن تكون خالية من الملوثات المختلفة التي تهدد صحة الإنسان، وأن تكون مقبولة من ناحية اللون والرائحة. وقد تناولنا في بداية هذه المقالة أسباب تلوث ماء الشرب واختلاطها بمياه الصرف الصحي والملوثات المختلفة، ولكن نود الإشارة هنا إلى حجم هذه المشكلة. فعناوين الصحف تطل علينا بصورة شبه منتظمة بأخبار تسمم مئات، بل آلاف المواطنين نتيجة شرب المياه الملوثة في قرى مصر المختلفة. وتطالعنا أحد الصحف في عام 2011 أن 80% من سكان محافظة أسيوط (والبالغ عددهم 4 ملايين مواطن) يشربون من مياه آبار ملوثة. ولكن الأخطر من ذلك هو ما تعترف به التقارير الحكومية نفسها من قلة جودة مياه الشرب التي تنتجها الشركة القابضة. فيشير أحد التقارير الحكومية الصادرة في سنة 2009/2010 أنه بتحليل عينات مياه الشرب التي تنتجها الشركة القابضة زاد عدد العينات غير المطابقة للمواصفات عن 50% من إجمالي عدد العينات التي تم اختبارها في 8 محافظات معظمها في صعيد مصر من أصل 16 محافظة شملتها الدراسة.

إمكانية تحمل تكلفة المياه


المياه ليست سلعة. المياه حق أصيل لكل إنسان يجب أن توفره الدولة لجميع المواطنين وبدون أي تفرقة. فالمياه يجب أن تكون في متناول الجميع وبغض النظر عن مستواهم الاقتصادي. في مصر على سبيل المثال، تبيع الشركة القابضة المتر المكعب من المياه النقية للمستهلك المنزلي بسعر يتراوح بين 23 إلى 50 قرش وفقاً لكمية الاستهلاك، في حين تبلغ تكلفة إنتاج المتر المكعب إلى 125 قرش. ولكن إذا نظرنا إلى حالة محطة التنقية الخاصة التي يتناولها هذا المقال، نجد أن سعر بيع المتر المكعب من المحطة مباشرة يصل إلى 40 جنيه بخلاف ما يماثل هذا المبلغ نظير التوصيل للمنزل. أي أن المحطة الخاصة تبيع المياه النقية بما يعادل 80 ضعف سعر الشركة القابضة في أقل تقدير. وهو ما يدحض رواية صاحب المحطة أن دفعه لتعريفة استهلاكه من المياه يمكن أن يرفع سعر منتجه النهائي. أما إذا نظرنا إلي سعر زجاجة المياه المعبأة سعة 1.5 لتر والتي تبيعها الشركات الخاصة بحوالي 3 جنيهات، نجد أن هذه الشركات تبيع المياه النقية للمواطنين بما لا يقل عن 4 آلاف ضعف سعر الشركة القابضة.

لا شك أن دعم الدولة لتعريفة المياه مسألة ضرورية وفى غاية الأهمية، لكنها تطرح إشكالية أخرى وهى مسألة الاستدامة البيئية والاقتصادية. فرغم حرمان الملايين من المصريين من وجود مصدر آمن للمياه النقية فى منازلهم، إلا أن هناك على الصعيد الآخر بعض الممارسات الخاطئة التى تؤدى الى الإسراف فى استهلاك المياه النقية مثل غسيل السيارات ورى الحدائق الخاصة فى الأحياء الراقية. بالنظر الى سياسات الدعم فى الدول النامية نجد أن بعض الدول تنتهج سياسة التعريفة التصاعدية فى دعم المياه، حتى أن دولة مثل جنوب أفريقيا على سبيل المثال توفر 25 لتر مجانية يومياً لكل مشترك ثم تتدرج التعريفة فى الارتفاع مع زيادة الاستهلاك. تضمن هذه السياسات حصول جميع المواطنين على الحد الأدنى من احتياجاتهم اليومية وفى ذات الوقت الحد من الإسراف فى استهلاك المياه النقية.

قد يعرف البعض بقضية قرية صنصفط بالمنوفية التي أصيب فيها 4 آلاف مواطن بالتسمم في عام 2012 جراء شرب المياه الملوثة بالقرية. وقد قامت الأجهزة الحكومية نتيجة هذا الحادث بإغلاق محطة تنقية المياه الخاصة بالقرية (والمشابهة تماماً للمحطة الخاصة التي نتناولها في هذا المقال) واتهمتها بالتسبب في هذا الحادث. ولكن ما لا يعلمه الكثيرون أن السبب الحقيقي للحادث أن صاحب المحطة الخاصة قام بإغلاق المحطة لعدة أيام لظروف سفره خلال عيد الفطر . مما اضطر سكان القرية لشرب مياه الشبكة العمومية التي تنتجها الحكومة، وهو ما أصاب آلاف منهم بالتسمم.

من المسئول إذن عن هذه المشكلات الهائلة المتعلقة بقضية حيوية مثل مياه الشرب في مصر؟ كيف لمواطن في دولة ما أن يحصل من الماء النقي على 7 أضعاف نصيب مثيله الذي يسكن في محافظة قريبة منه؟

من المسئول عن هذا التردي الذي أصاب هذا القطاع بأكمله حتى أصبح الحل الوحيد لملايين المواطنين كي يحافظوا على صحتهم هو اللجوء للمياه الجوفية أو مصادر المياه الخاصة؟

ومن يتحمل تكلفة هذا الفارق المروع بين تكلفة المياه العمومية وتكلفة شرب كوب مياه نقي من مصادر التنقية الخاصة؟ والسؤال الأهم، من يتكسب من هذا الفارق ومِن مصلحة مَن أن يستمر هذا الوضع؟

لن تحل مشكلة مياه الشرب في مصر بين يوم وليلة. لذا من نلوم هنا، المحطات والشركات الخاصة التي تحقق مكاسب لا حصر لها من بيع “سلعة عامة” ولكنها توفر خدمة لا غنى عنها للمواطنين؟ أم الدولة التي تتخلى عن دورها في هذا المجال وتركت المواطنين فريسة لهذه الشركات؟ قد يرى البعض أن خصخصة هذا المجال هي الحل الأمثل لتحسين هذه الخدمة. وقد بدأت الدولة بالفعل في خصخصة بعض قطاعات الصرف الصحي. وفي حين أن الدولة تغض الطرف عن شركات المشروبات العملاقة التي تبيع المياه المعبأة في السوق المصري، فإنها تطارد محطات التنقية الخاصة التي يقيمها المواطنين بالقرى وأطراف المدن وتهددها بالإغلاق، بدون أن تقدم الدولة حلاً لملايين المحتاجين لكوب مياه نقي ولا يملكون ثمن المياه المعبأة الباهظ.

ولكن الخصخصة ليست الحل. فملايين المواطنين حول العالم من البرازيل إلى ألمانيا إلى الهند ودول عديدة أخرى يناضلون من أجل استعادة الملكية العامة للمياه ويقاومون مخططات خصخصة هذا القطاع. بل أنهم يستعيدون مرافق المياه التي تم خصخصتها بالفعل من بين براثن الشركات الخاصة ويقدمون نماذج يحتذي بها في الإدارة العمومية الناجحة للمياه.

أين مصر من هذا ونحن نتجه لخصخصة العديد من القطاعات الحيوية التي تهم المواطنين؟ ترجع معظم مشكلات مصر في قطاع مياه الشرب إلى سؤ إدارته والتضارب بين تخصصات جهاته المختلفة والاحتياج إلى إعادة هيكلة هذا القطاع بأكمله وهو ما يحتاج بعض الوقت. لذا، قد يكون جزء من الحل على المدى القصير أن تقوم الدولة بإصدار قانون لتنظيم قطاع محطات تنقية المياه الخاصة للتأكد من جودة منتجه واعتدال أسعاره وأن توجه له يد الدعم لسد العجز القائم في هذه الخدمة. فالدولة ليست فقط منحازة لنهج الخصخصة، ولكنها حتى تمارس نهجاً للتمييز داخل الخصخصة وتنحاز بالكامل للشركات العملاقة على حساب الشركات الخاصة الصغيرة ومتناهية الصغر. وقد يكون جزء من الحل أيضاً أن تتعلم الدولة من محطات تنقية المياه الخاصة هذه في جانب اللامركزية وكيفية توفير خدمات ناجحة على مستوى القرى الصغيرة وأطراف المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *